الخسائر المادية الناجمة عن استعمال المياه غير النقية، الماء النقي عنصر أساسي للحياة والصحة، لكن عند استخدام مياه غير نقية أو ملوثة فإن النتائج لا تقتصر على المخاطر الصحية فقط، بل تمتد لتشمل خسائر مادية جسيمة. يؤثر تلوث المياه سلبًا على الأفراد والأسر من خلال تكاليف العلاج الطبي، وإتلاف الأجهزة المنزلية وأنظمة السباكة، إلى جانب أعباء اقتصادية على مستوى الدول. في هذا المقال نستعرض بشكل شامل الخسائر المادية الناتجة عن استعمال المياه غير النقية، مع التركيز على التأثيرات الصحية وتكاليف العلاج، والأضرار التي تلحق بالأجهزة الكهربائية وأنظمة السباكة، ثم نقدّم تحليلًا ماليًا للخسائر مدعومًا بإحصائيات عالمية وإقليمية، متبوعًا بأمثلة لحالات دراسية، وأخيرًا توصيات للحد من هذه الخسائر.
الأضرار التي تلحق بالأجهزة الكهربائية المنزلية
لا تقتصر آثار المياه غير النقية على الصحة فقط، بل تمتد لتطال الأجهزة الكهربائية المنزلية التي تستخدم المياه في تشغيلها، مثل الغسالات وسخانات المياه وغسالات الصحون والمكواة وآلات صنع القهوة وغيرها. تحتوي المياه “العسرة” ذات المحتوى العالي من المعادن (خاصة مركبات الكالسيوم والمغنيسيوم) على ترسبات معدنية تتراكم مع مرور الوقت داخل هذه الأجهزة. يؤدي تراكم الرواسب الكلسية إلى انسداد الأنابيب الداخلية وتقليل كفاءة تدفق الماء، كما يسبب تآكل الأجزاء المعدنية في الجهاز بسبب التفاعل الكيميائي للمياه غير النقية
. ونتيجة لذلك، تعمل الأجهزة تحت إجهاد أكبر وقد ترتفع نسبة استهلاكها للطاقة بشكل ملحوظ لتعويض تدني الكفاءة؛ على سبيل المثال، قد ينخفض مردود سخان المياه بنسبة تصل إلى 48% بسبب الترسبات الكلسية، ما يعني استهلاكًا أعلى للكهرباء وتسريعًا لأعطال السخان
.
إن استمرار استخدام مياه غير نقية أو عسرة يؤدي إلى تقليص العمر الافتراضي للأجهزة بشكل حاد. فقد وجدت دراسات أنه في ظل المياه العسرة يمكن أن يتراجع عمر الأجهزة إلى حوالي نصف عمرها المتوقع تقريبًا
. على سبيل المثال، متوسط عمر الغسالة عادة يقارب 11 عامًا، لكنه قد ينخفض إلى 7 أو 8 سنوات فقط عند استخدامها بمياه عسرة مليئة بالترسبات
. وبالمثل، قد تحتاج سخانات المياه التي يفترض أن تعيش أكثر من عقد إلى استبدال خلال بضع سنوات إذا كانت المياه المزوَّدة لها غير معالجة. أحد الإحصاءات يبيّن أن سخان الماء الكهربائي بعمر تقريبي 13 عامًا يمكن أن يتعطل بعد 6 إلى 7 سنوات من الاستخدام بالمياه القاسية، والغسالة من 11 سنة إلى أقل من 8 سنوات
. هذا التناقص الكبير في عمر الأجهزة يعني تكاليف مالية إضافية على الأسر؛ حيث يضطرون لإصلاح الأجهزة بوتيرة أعلى أو استبدالها بالكامل في فترة أقصر مما هو مفترض، ما يرتّب نفقات قد تكون باهظة. فكلفة شراء غسالة جديدة أو سخان جديد كل بضعة أعوام تمثل عبئًا مالياً غير متوقع مقارنة بالعمر الافتراضي الأطول المتوقع عند استخدام ماء نظيف أو معالجة عسرة الماء. أضف إلى ذلك أن تراكم الترسبات قد يُلغي الضمان الممنوح من الشركات المصنّعة في بعض الحالات، لاعتباره سوء استخدام أو عدم عناية، مما يحرم المستهلك من خدمات الصيانة المجانية. كما أن الأجهزة التي تعمل بكفاءة منخفضة تستهلك كميات أكبر من الكهرباء أو الوقود (في حالة السخانات الغازية) للحفاظ على نفس مستوى الأداء، فيرتفع بذلك بند فاتورة الطاقة على المدى الطويل. كل هذه العوامل تعني أن المياه غير النقية تكلف الأسر أموالًا إضافية خفية في صيانة الأجهزة المنزلية واستبدالها ودفع فواتير طاقة أعلى.
تأثير المياه الملوثة على أنظمة السباكة
تمتد آثار المياه الملوثة وعالية المعدنية إلى شبكات السباكة المنزلية وأنظمة توزيع المياه في المباني. مع مرور الزمن، تؤدي الترسبات الناتجة عن المياه غير النقية إلى انسداد جزئي في المواسير (الأنابيب) وتقليل قطرها الداخلي، مما يضعف تدفق المياه ويخفض ضغطها في الصنابير. هذه الترسبات قد تتحول إلى كتل صلبة داخل الأنابيب تُعرف بالـقشور الكلسية (التي يصعب إزالتها وتسبب إجهادًا على مضخات المياه وكذلك على وصلات السباكة. من جهة أخرى، إذا كانت المياه حامضية أو تحتوي على ملوثات كيميائية، يمكن أن يحدث تآكل كيميائي للأنابيب المعدنية (خاصة المصنوعة من الحديد أو النحاس أو الفولاذ المجلفن)، حيث تتآكل جدرانها الداخلية تدريجيًا. هذا التآكل قد يؤدي إلى تسرّب المياه من الثقوب والشقوق المتكونة، بل وقد يؤدي في حالات متقدمة إلى انفجار الأنابيب أو انهيارها. حتى الصنابير ورؤوس الدُش وغيرها من التجهيزات المعدنية قد تصدأ أو تتعطل بسبب الترسبات والتآكل مع الاستخدام المستمر لمياه ذات جودة منخفضة. على سبيل المثال، تشير البيانات إلى أنه في البيئات ذات المياه “العسرة” ينخفض العمر الافتراضي للصنابير من حوالي 9 سنوات في الظروف الطبيعية إلى نحو 5 سنوات فقط، نتيجة تراكم الكلس والتآكل السريع للمكونات
. هذا يعني الحاجة إلى تغيير الخلاطات والصمامات بمعدل أعلى مما لو كانت المياه نظيفة أو معالجة من العسر.
كلما تضررت أنظمة السباكة، ترتفع تكاليف الصيانة والإصلاح. فقد يضطر صاحب المنزل إلى الاستعانة بالسبّاكين بشكل متكرر لتنظيف الأنابيب المسدودة أو معالجة التسريبات. وبعض المشاكل قد تستفحل إلى درجة تستدعي استبدال أجزاء كبيرة من شبكة المواسير في المنزل. هذه العملية معقدة ومكلفة، إذ تشمل كسر وإصلاح الجدران والأرضيات واستبدال الأنابيب المعدنية المتضررة بأخرى جديدة مقاومة للتآكل (مثل أنابيب الـPVC أو النحاس الحديثة). تُظهر تقديرات في الولايات المتحدة أن استبدال شبكة الأنابيب بالكامل في منزل واحد قد يكلف ما بين 2,000 إلى 15,000 دولار أمريكي وفق حجم المنزل وعدد دورات المياه فيه
. هذه أرقام كبيرة تشكل عبئًا ماليًا كبيرًا على ميزانية الأسرة. أما على نطاق المباني السكنية الكبيرة أو شبكات التوزيع العامة، فإن تدهور نوعية المياه يؤدي إلى تقصير عمر البنية التحتية للمياه، مما يجبر الجهات المسؤولة على الاستثمارات المتكررة في التجديد والتبديل. فعلى سبيل المثال، إذا أهملت شبكة أنابيب مدينة ما ولم تتم معالجة مشكلة تآكل المياه، قد يصبح لزامًا على المدينة استثمار ملايين الدولارات في تجديد الشبكة قبل الوقت المخطط له. وإلى جانب تكلفة الإصلاح المباشر، قد ينتج عن تسرب المياه الملوثة أضرار هيكلية في المباني (بسبب الرطوبة وتسرب المياه في الجدران والأسقف) ما يستدعي نفقات إضافية لإعادة ترميم تلك الأضرار. كما أن الخلل في أنظمة السباكة يؤثر على كفاءة استخدام المياه، حيث تزيد نسبة المياه المهدرة عبر التسربات، مما يعني فاتورة أعلى على المستهلك إذا كان الدفع حسب الاستهلاك، أو خسارة مائية تتكبدها شبكات المياه العامة. باختصار، تلوث المياه ورداءتها قد يؤدّيان بشكل مباشر إلى ارتفاع تكاليف صيانة البنية التحتية للمياه في المنازل والمنشآت، وتكبيد الأفراد والحكومات نفقات لم تكن في الحسبان.
التحليل المالي الشامل للخسائر (على مستوى الأفراد والدول)
من العرض السابق لتأثيرات المياه غير النقية، يمكننا تجميع صورة شاملة للتكاليف المالية التي يتحملها كل من الأفراد والمجتمعات والدول نتيجة هذه المشكلة. على مستوى الأفراد والأسر، نجد أن هناك نفقات مباشرة واضحة مثل: تكاليف العلاج الطبي من أمراض ناتجة عن مياه ملوثة (رسوم الكشف الطبي، الأدوية، دخول المستشفى عند الضرورة)، ونفقات إصلاح أو استبدال الأجهزة المنزلية التي تعطلت قبل أوانها بسبب الترسبات أو الصدأ، وتكاليف صيانة السباكة وإصلاح التسريبات أو استبدال المواسير المتآكلة. يُضاف إلى ذلك نفقات وقائية قد يضطر الأفراد لتحملها تجنبًا لتلوث المياه، مثل شراء أجهزة تنقية وفلاتر للمياه المنزلية أو إنفاق مبالغ على مياه الشرب المعبأة بدلاً من ماء الصنبور عند الشك في جودته. فضلًا عن ذلك، هناك تكاليف غير مباشرة لكنها محسوسة في ميزانية الأسرة، مثل ارتفاع فاتورة الكهرباء أو الغاز لأن سخان الماء أو الغسالة يعملان بكفاءة أقل تحت وطأة الترسبات مما يستهلك طاقة أكثر من المعتاد. حتى مواد التنظيف تتأثر: فالمياه العسرة تجعل الصابون ومساحيق الغسيل أقل فعالية، مما يدفع ربة المنزل لاستهلاك كميات أكبر من هذه المواد للحصول على نفس مستوى النظافة، أي زيادة مصروف شهري على المنظفات. قد تبدو بعض هذه البنود فردية وصغيرة، لكنها بتراكمها تشكل مبلغًا معتبرًا سنويًا. على سبيل المثال، قدّرت إحدى الدراسات في مجال ترشيد المياه أنه يمكن للأسرة توفير نحو 800 دولار سنويًا عند استخدام مياه معالجة (م软ياه مخففة العسر) بدلًا من المياه العسرة، وذلك بفضل خفض استهلاك الصابون ومواد التنظيف، وتقليل فاتورة الطاقة، وإطالة عمر الأجهزة والسباكة وتقليل مصاريف صيانتها
. هذا الرقم يدل بشكل عكسي على أن الأسر التي تستخدم مياه غير نقية أو عالية العسر قد تكون تخسر ما يقارب هذا المبلغ سنويًا على نفقات إضافية وصيانة كان بالإمكان تجنبها.
التأثيرات الصحية وتكاليف العلاج
تؤدي المياه الملوثة إلى انتشار العديد من الأمراض؛ منها الأمراض المعوية مثل الإسهال والكوليرا والدوسنتاريا (الزحار)، وأمراض بكتيرية كالتيفوئيد، وأمراض فيروسية كالتهاب الكبد الوبائي A، وحتى أمراض طفيلية. هذه الأمراض لا تسبب معاناة صحية فقط، وإنما تحمل تكاليف مالية كبيرة للعلاج. فعلى سبيل المثال، تُقدَّر حالات الوفاة الناتجة عن الأمراض المنقولة عبر المياه الملوثة بحوالي 505 ألف حالة وفاة سنويًا بسبب الإسهالات وحدها على مستوى العالم
. كما يُصاب الملايين سنويًا بأمراض مرتبطة بالمياه غير الآمنة، مما يضطرهم لتحمل نفقات الرعاية الطبية من زيارات للأطباء وشراء الأدوية وأحيانًا تكاليف المستشفى. هذه التكاليف ترهق كاهل الأسر، خاصة في الدول النامية حيث غالبًا ما يضطر المرضى لدفع نفقات العلاج من مواردهم المحدودة.
حتى في الدول التي يتوافر فيها نظام صحي متقدم، تظهر الخسائر المادية بوضوح عند تفشي الأمراض المرتبطة بالمياه. في الولايات المتحدة – وهي دولة متقدمة – تشير التقديرات إلى تسجيل نحو 7.2 مليون حالة مرضية مرتبطة بالمياه غير النقية خلال عام واحد (2014)، اضطر حوالي 601 ألف منها لزيارة طوارئ المستشفى، ونجم عنها ما يقارب 3.3 مليارات دولار من تكاليف الرعاية الصحية في ذلك العام
. بالإضافة إلى ذلك، تم تسجيل نحو 6,600 حالة وفاة مرتبطة بهذه الأمراض في الفترة نفسها
. هذه الأرقام تسلّط الضوء على العبء المالي الكبير الذي يشكّله تلوث المياه على أنظمة الصحة العامة حتى في الاقتصادات القوية. أما في البلدان منخفضة الدخل، فإن الصورة أشد خطورة: إذ غالبًا ما تؤدي محدودية إمكانات العلاج إلى ارتفاع معدل الوفيات، فيما تضطر الحكومات والمنظمات الإغاثية إلى إنفاق مبالغ طائلة لاحتواء تفشيات الأمراض (مثل حملات التطعيم الطارئة ضد الكوليرا أو توفير المحاليل لمعالجة حالات الجفاف عند الأطفال المصابين بالإسهال). ولا يقتصر الضرر المالي على تكاليف العلاج المباشرة، بل يشمل أيضًا خسارة الإنتاجية عندما يضطر المرضى أو ذووهم للغياب عن العمل أو الدراسة أثناء فترة المرض والنقاهة، مما يعني فقدان دخل للأسر ونقصًا في قوة العمل يؤثر على الاقتصاد عمومًا.
توصيات للحد من هذه الخسائر
للحد من الخسائر المادية الناجمة عن استعمال المياه غير النقية، لا بد من تبني مجموعة من الإجراءات الوقائية والعلاجية على مستوى الأفراد والدولة. فيما يلي بعض التوصيات المهمة في هذا الصدد:
- تحسين البنية التحتية لمعالجة المياه: يتوجب على الحكومات الاستثمار في إنشاء وتطوير محطات تنقية ومعالجة مياه الشرب لضمان إزالة الشوائب والملوثات من المصدر قبل وصول الماء إلى منازل المواطنين. تشمل هذه المعالجات الترشيح والتطهير (مثل إضافة الكلور) والتحلية عند الضرورة. كذلك يجب تحديث الشبكات القديمة (خاصة الأنابيب المصنوعة من مواد قد تلوث المياه كالرصاص) واستبدالها بمواد آمنة لا تتفاعل مع الماء. إن الاستثمار في البنية التحتية المائية يعود بفوائد اقتصادية كبيرة؛ فقد أشارت دراسات البنك الدولي إلى أن كل دولار يُستثمر في تحسين خدمات المياه والصرف الصحي يمكن أن يحقق نحو 4 دولارات من العوائد الاقتصادية
بفضل تقليل تكاليف العلاج وزيادة الإنتاجية وغير ذلك.
- الصيانة الدورية ومراقبة جودة المياه: من الضروري إجراء فحوص دورية لجودة المياه في شبكات التوزيع العامة والآبار الخاصة، وذلك لكشف أي تلوث بكتيري أو كيميائي مبكرًا ومعالجته قبل تفاقمه. ينبغي للجهات المعنية صيانة الخزانات والأنابيب بشكل منتظم لمنع تراكم الرواسب أو الصدأ، بما في ذلك تنظيف الخزانات العلوية للمباني وتعقيمها كل فترة. كما يجب استخدام موانع التآكل في الشبكات عند الحاجة (على غرار ما فشل في حدوثه في حالة فلينت) لمنع تآكل الأنابيب المعدنية. المراقبة المستمرة تضمن سرعة الاستجابة لأي مشكلة، مما يوفر تكاليف الإصلاح الضخمة التي تنتج عن الإهمال الطويل.
- معالجة مشكلة عسر المياه للمنازل: في المناطق التي تعاني من المياه العسرة (ذات المحتوى المعدني العالي)، يُنصح باستخدام أجهزة منع الترسبات الكلسية أو محسّنات عسر الماء (water softeners) على مستوى المنزل أو الحي. هذه الأجهزة تُقلّل تركيز المعادن المسببة للترسبات وبالتالي تحمي الأجهزة المنزلية وشبكة المواسير من التكلس والتآكل. صحيح أن تركيبها وصيانتها يستلزمان تكلفة، لكنها توفر المال على المدى الطويل عبر إطالة عمر السخانات والغسالات وغيرها وتقليل استهلاك الطاقة والمنظفات. هناك أيضًا حلول أبسط مثل استخدام فلاتر مغناطيسية أو إضافة مواد مانعة للترسب في السخانات، وكلها تساهم في تخفيف الأضرار.
- توعية المجتمع بأفضل الممارسات: يلعب وعي المواطنين دورًا مهمًا في تقليل الخسائر. ينبغي إطلاق حملات توعية حول خطورة استعمال المياه غير المعقمة للشرب أو الطهي، وتشجيع الأسر على غلي الماء أو استخدام المرشحات المنزلية عند الشك في جودة ماء الصنبور. كما يجب توعيتهم بأهمية الصيانة المنزلية، مثل تنظيف رأس الدش والصنابير من الترسبات كل فترة، وتشغيل دورة الخل لتنظيف الغسالة وسخان الماء من الكلس، وفحص الأنابيب دوريًا لرصد أي تسرب مبكر. كذلك، تعزيز ممارسات النظافة الشخصية (غسل اليدين جيدًا، تغطية خزانات المياه المنزلية، التخلص الصحي من مياه الصرف) يقلل من انتشار الأمراض المرتبطة بالمياه. هذه الإجراءات البسيطة قد تمنع الكثير من الحالات المرضية وتوفر مصاريف العلاج.
- تعزيز سياسات الوقاية وحوكمة المياه: على مستوى الدول، من المهم سن وتطبيق معايير صارمة لجودة المياه سواء مياه الشرب أو المستخدمة في الصناعات الغذائية. يجب أن تخضع مصادر المياه العامة للفحص المستمر، وأن تُفرض عقوبات على الجهات أو المصانع التي تلوث مصادر المياه عبر تصريف نفاياتها دون معالجة. كذلك، تبني خطط للطوارئ المائية (كوجود خزانات احتياطية أو إمكانية توزيع مياه نظيفة عند حدوث تلوث) يقلل من أثر الأزمات الصحية ويجنب الإنفاق العشوائي تحت الضغط. وفي المناطق الريفية، ينبغي دعم مشاريع توفير الصرف الصحي وبناء مراحيض آمنة لمنع تلوث مصادر المياه الجوفية، لأن تكلفة بناء البنية التحتية قد تكون أقل بكثير من تكلفة علاج القرى من وباء الكوليرا مثلاً. أيضا، إشراك المجتمع المحلي في إدارة الموارد المائية – عبر لجان أهلية أو تعاونيات – يضمن الحفاظ على هذه الموارد نظيفة ويشعر الناس بالمسؤولية نحوها.
- إعادة استخدام وتقنيات مبتكرة: يمكن أن تكون التقنيات الحديثة حليفًا في تقليل خسائر تلوث المياه. فمثلاً، إعادة استخدام المياه الرمادية المعالجة في الري والتنظيف يخفف الضغط على موارد المياه النقية. واستخدام أجهزة الاستشعار ونظام إنذار مبكر في شبكات المياه يمكن أن يكشف التسربات أو التغيرات النوعية فور حدوثها لتصحيح الوضع سريعًا. كما أن دعم الابتكار في تقنيات الترشيح منخفضة التكلفة للأسر الفقيرة (مثل فلاتر الفخار أو فلاتر الأشعة فوق البنفسجية المنزلية) يتيح تأمين مياه آمنة بأسعار زهيدة، ما يجنّب تلك الأسر الوقوع في دوامة المرض والكلفة العلاجية. وبشكل عام، التخطيط المستدام للمياه – أخذًا بالاعتبار تغيرات المناخ والنمو السكاني – ضروري لضمان أن الاستثمارات اليوم ستستمر في حماية المجتمعات من خسائر أكبر غدًا.
إن الكلفة الحقيقية للمياه غير النقية تتجاوز ما قد يبدو لأول وهلة من مشاكل صحية لتشمل أعباء اقتصادية ثقيلة على الأفراد والمجتمعات والدول. لقد رأينا كيف يمكن لمرض ناتج عن الماء الملوث أن يُرهق ميزانية الأسرة، وكيف تؤدي مياه عسرة إلى تعطيل أجهزة باهظة الثمن، وكيف يُكبّد إهمال جودة المياه الحكومات فاتورة باهظة في نهاية المطاف. بالمقابل، الاستثمار في المياه النظيفة يوفّر عوائد كبيرة ماديًا وبشريًا. من الحكمة أن نعتبر كل دولار يُنفق على تحسين جودة المياه بمثابة تأمين ضد مصاريف مستقبلية أكبر بكثير، مثلما أن كل إجراء وقائي نتخذه اليوم – صغيرًا كان أم كبيرًا – يجنّبنا خسائر غدًا. لذلك فإن ضمان توفير مياه آمنة ونقية ليس مجرد قضية صحية أو بيئية فحسب، بل هو أيضًا استثمار اقتصادي رشيد يؤدي إلى مجتمعات أكثر ازدهارًا وقدرة على تحقيق التنمية المستدامة، ويحمي في الوقت نفسه أرواح الناس ويحسّن جودة حياتهم. بالالتزام بالتوصيات والإجراءات الوقائية المذكورة، يمكن للدول والأفراد معًا الحدّ بشكل ملموس من الخسائر المادية الناجمة عن استعمال المياه غير النقية، وبناء مستقبل أكثر أمانًا ووفرة.


English